بسم الله الرحمن الرحيم
نَـحْوَ عَامٍ حَافِلٍ بِالـتـقـدُّمِ وَالعَطَاءِ
الْحَمْدُ للهِ الذِي جَعَلَ فِي انْقِضَاءِ الأَيَّامِ حَافِزًا لأَرْبَابِ الهِمَمِ، وَفِي تَصَرُّمِ الأَعْوَامِ ذِكْرَى نَافِعَةً لِبنَاءِ الأَفْرَادِ وَالأُمَمِ، وََأشْهَدُ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، أَمَرَ عِبَادَهُ بِالمُسَارَعَةِ إِلَى الخَيْرَاتِ، وَحَثَّهُمْ عَلَى الإِكْثَارِ مِنَ الطَّاعَاتِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ سُبُلِ المُنْكَرَاتِ، وَأشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، أَجْهَدُ النَّاسِ لِنَفْسِهِ فِي صَلاَحِ دُنْيَاهُ وَمَعَادِهِ، وَأَوفَرُهُمْ نَفْعًا وَإِصْلاَحًا لأُمَّتِهِ وَبِلاَدِهِ، وَأَبَرُّهُمْ فِي صِلَتِهِ مَعَ اللهِ وَعِبَادِهِ، -صلى الله عليه وسلم- وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الأَبْرَارِ، وَتَابِعِيهِمْ مِنَ المُؤمنِينَ الأَخْيَارِ، صَلاَةً وَسَلاَمًا دَائمَيْنِ مَا تَعَاقَبَ اللَّيلُ وَالنَّهَارُ.
أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَاتَّقُوا اللهَ - رَحِمَكُمُ اللهُ-، وَاعلَمُوا أَنَّ حَيَاةَ الإِنْسَانِ مَرَاحِلُ، وَالنَّاسُ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا مَا بَيْنَ مُستَعِدٍّ لِلْرَّحِيلِ وَرَاحِلٍ، وَالكَيِّسُ الحَازِمُ مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ صَالِحًا، ((مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ))(1)، وَمَا أَحْسَنَ التَّذْكِيرَ وَأَجْدَرَ المُحَاسَبَةَ حِيْنَ تَحُلُّ المُنَاسَبَةُ، وَهَا أَنْتُمْ تُوَدِّعُونَ عَامًا وَتَستَقبِلُونَ آخَرَ، تُوَدِّعُونَ عَامًا قَدِ انْصَرَمَتْ أَيَّامُهُ وَانْقَضَتْ لَيَالِيهِ، فَهُوَ شَاهِدٌ - وَلاَ شَكَّ- لَكُمْ أَو عَلَيْكُمْ، فَهَلْ مِنْ وِقْفَةٍ صَادِقَةٍ نُحَاسِبُ فيها أَنْفُسَنَا قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبَ؟ فَمَنْ كَانَ مُسِيئًا فِيمَا مَضَى فَعَلَيْهِ الإِنَابَةُ وَالإِحْسَانُ فِيمَا بَقِيَ، فَبَابُ التَّوبَةِ مَفْتُوحٌ، وَرَبُّنَا غَفُورٌ رَحِيمٌ، وَعَامُكُمُ المُنْصَرِمُ جَرَتْ فِيهِ أَحْدَاثٌ وَتَجَلَّتْ فِيهِ آيَاتٌ، إِنَّهَا آيَاتُ اللهِ وَأَيَّامُهُ، تَظْهَرُ فِيهَا عَظَمَةُ ذِي الجَلاَلِ وَتَمَامُ مُلْكِهِ وَأَمْرِهِ وَتَدْبِيرِهِ، وَإِنَّ هَذِهِ الحَوَادِثَ لََتُوقِظُ قُلُوبًا غَافِلَةً، لِتُرَاجِعَ تَوحِيدَهَا وَإِخْلاَصَها لِرَبِّهَا، فَلاَ تُشْرِكَ مَعَ اللهِ فِي قُوَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ أَحَدًا، وَالوُقُوفُ مَعَ مَحَطَّاتِ الزَّمَانِ مِنْ صِفَاتِ المُؤمِنِينَ، وَالاعتِبَارُ بِالأَحْدَاثِ سِيمَا المُتَّقِينَ، قَالَ سُبْحَانَهُ: ((إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ))(2)، فَتَفَكَّرُوا فِي هَذِهِ اللَّيَالِي وَالأَيَّامِ، فَإِنَّها مَرِاحلُ تَقْطَعُونَهَا إِلَى الدَّارِ الآخِرَةِ، فَطُوبَى لِعَبْدٍ اغتَنَمَهَا بِمَا يُقَرِّبُهُ إِلَى مَولاَهُ، وَشَغَلَهَا بِالطَّاعَاتِ وَتَجَنَّبَ فِعْـلَ السَّيِّئَاتِ، وَطُوبَى لِعَبْدٍ اتَّعَظَ بِمَا فِيَها مِنْ تَقَلُّبَاتِ الأُمُورِ وَالأَحْوَالِ، قَالَ تَعَالَى: ((يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ))(3)، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- وَعَظَ رَجُلاً فَقَالَ: ((اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْـلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْـلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْـلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْـلَ مَوتِكَ))، فَيَا أَيُّها الشَّبَابُ: إِنَّ الشَّبَابَ قُوَّةٌ وَعَزِيمَةٌ، فَإِذَا هَرِمَ الإِنْسَانُ وَشَابَ ضَعُفَتِ القُوَّةُ وَفَتَرَتِ العَزِيمَةُ، فَاللهَ اللهَ فِي شَبَابِكُمْ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ :
إِنَّ ارتِبَاطَ المُرَاجَعَةِ وَالمُحَاسَبَةِ بِالتَّغْيِيرِ نَحْوَ الأَفْضَلِ وَالأَكْمَلِ وَثِيقُ العُرَى وَطِيدُ الصِّلاَتِ، إِذِ المُرَاجَعَةُ وَالمُحَاسَبَةُ تُظْهِرَانِ المَرْءَ عَلَى مَوَاطِنِ النَّقْصِ وَمَواضِعِ الخَلَلِ وَمَكَامِنِ العِلَلِ، فَإِذَا صَحَّ مِنَ الإِنْسَانِ العَزْمُ وَصَلَحَتْ عِنْدَهُ النِّيَّةُ، كَانَ حَقِيقًا بِعَوْنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ سُبْحَانَهُ: ((وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ))(4)، وَالعِنَايَةُ بِهَذِهِ المُرَاجَعَةِ وَالحِرْصُ عَلَى هَذِهِ المُحَاسَبَةِ دَأْبُ أُولِي النُّهَى وَنَهْجُ الرَّاشِدِينَ، لاَ يَشْغَلُهُمْ عَنْهَا لَهْوُ الحَيَاةِ وَلَغْوُهَا وَزُخْرُفُهَا وَزِينَتُهَا، فَإِذَا هُمْ يَقْطَعُونَ أَشْوَاطَ الحَيَاةِ بِحَظٍّ مَوفُورٍ مِنَ التَّوفِيقِ فِي بُلُوغِ الآمَالِ وَالظَّفَرِ بِالمَقَاصِدِ وَالسَّلاَمَةِ مِنَ العِثَارِ، فَكُنْ بِقَلْبِكَ - يَا رَعَاكَ اللهُ- مَعَ القَوْمِ الذِينَ قَالَ اللهُ فِيهِمْ: (( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ، أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ))(5)، وَاحْذَرِ الإعْرَاضَ عَنْ ذِكْرِ اللهِ؛ فَإِنَّ الإِعْرَاضَ عَنْ ذِكْرِهِ عَزَّ وَجَلَّ نَكَدٌ فِي الدُّنْيَا وَعَذَابٌ فِي الآخِرَةِ، ((وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى))(6)، فَطُوبَى لِمَنْ أَصلَحَ حَالَهُ مَعَ اللهِ، وَسَارَعَ إِلَى عَفْوِهِ وَرِضَاهُ، فَخَطَّطَ فِي المُقْبِلِ مِنْ عَامِهِ لِمَزِيدٍ مِنَ الطَّاعَاتِ، وَاستَعَدَّ لِكَسْبِ الحَسَنَاتِ، وَمَا أَكْثَرَ سُبُلَ صَالِحِ الأَعْمَالِ، لِمَنْ جَدَّ فِي طَلَبِ رِضْوَانِ ذِي الجَلاَلِ، وَإِذَا كَانَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ شَرَعَ لَنَا فِي نِهَايَةِ العَامِ المُنْصَرِمِ صِيَامَ يَوْمِ عَرَفَةَ فِي حَقِّ غَيْرِ الحَاجِّ فَإِنَّ فُرَصَ افتِتَاحِ العَامِ الجَدِيدِ أَيْضًا قَائمَةٌ مُتَاحَةٌ لِمَنْ هُدِيَ وَوُفِّقَ وَأُعِينَ، وَإِنَّ مَنْ أَظْهَرِ ذَلِكَ صَيَامَ شَهْرِ اللهِ المُحَرَّمِ، فَإِنَّهُ أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: ((أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللهِ الذِي تَدْعُونَهُ المُحَرَّمَ، وَأَفْضَلُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الفَرِيضَةِ صَلاَةُ اللَّيلِ))، وَكَفَى بِهِ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى يَوْمِ عَاشُوراءَ الذِي قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- : ((أَحْـتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ التِي قَبْلَهُ))، فَخُذُوا - يَا عِبَادَ اللهِ- بِحَظِّكُمْ مِنَ هَذَا الخَيْرِ، واعَمَلُوا عَلَى مُدَاومَةِ الطَّاعَاتِ تَكُونُوا مِنَ الفائِزِينَ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ :
إِنَّ المَرْءَ لَنْ يَقْوَى عَلَى الارتِقَاءِ بِحَالِهِ، وَالإِتْيَانِ بِمَا يَضْمَنُ لَهُ الفَوزَ فِي مَآلِهِ، كَمَا لَنْ يَستَطِيعَ القِيَامَ بِدَوْرِهِ الوَظِيفِيِّ، وَأَدَاءَ وَاجِبِهِ العَمَلِيِّ، إِلاَّ بِنُورٍ مِنَ المَعْرِفَةِ وَالعِلْمِ، وَحَظٍّ وَافِرٍ مِنَ الإِدْرَاكِ وَالفَهْمِ، وَلَمَّا كَانَ الأَمْرُ كَذَلِكَ أَمَرَ اللهُ صَفْوَتَهُ مِنْ رُسُلِهِ وَأَنْبْيَائِهِ، وَخِيرَةَ عِبَادِهِ وَأَولِيَائِهِ، أَنْ يَعْمِدُوا إِلَى طَلَبِ العُلُومِ وَالمَعَارِفِ بِقُوَّةٍ وَنَشَاطٍ لاَ يَعتَرِيهِ كَسَلٌ، وَعَزِيمَةٍ وَقَّادَةٍ لاَ يَخْتَرِمُهَا مَلَلٌ، كَمَا رَغَّبَ -صلى الله عليه وسلم- أُمَّتَهُ فِي الجِدِّ والاجتِهَادِ مِنْ أَجْـلِ تَحْصِيلِ المَعْرِفَةِ النَّافِعَةِ، أَلاَ فَاجْعَلُوا مِنْ عَامِكُمُ الجَدِيدِ رُقِيًّا وَتَنْمِيَةً بِتَحْصِيلِ العِلْمِ النَّافِعِ المُفِيدِ.
فَاتَّقُوا اللهَ -عِبادَ اللهِ-، واجتَهِدُوا فِي الجِدِّ وَالاجتِهَادِ فِي سَائِرِ أُمُورِكُم، وَاحرِصُوا أَنْ يَكُونَ يَوْمُكُمْ خَيْرًا مِنْ أَمْسِكُمْ، وَغَدُكُمْ خَيْرًا مِنْ يَوْمِكُمْ، فَإِنَّ هَذَا أَمَلُ الصَّالِحِينَ، وَرَجَاءُ المُتَّقِينَ، وَدُعَاءُ المُؤمِنِينَ.